مذكرات : بائع الخبز والمراقب التربوي /بقلم الأستاذ المصطفى السهلي

أزمعت السفر باكرا إلى إغرم ( على بعد 90 كيلومترا شرق مدينة تارودانت ).. بعد أن وصلتني جداول حصص الأساتذة ، ومن بينهم أستاذ حديث عهد بمهنة التدريس عُيِّن في ثانوية الأرك بإغرم ، طوّحت به أقداره من شمال المغرب ، إلى هذه المنطقة الجنوبية شبه المعزولة ، والتي اُحدِث بها سلك للتعليم الثانوي ، بعد شكايات متكررة من الآباء الذين انقطع أبناؤهم ، وبناتهم عن الدراسة ، بسبب بُعد الثانوية عنهم ، وعدم استفادة معظمهم من المنحة الدراسية التي تخولهم الإيواء بإحدى الثانويات الموجودة في تارودانت... وعلى الرغم من الأعداد القليلة للتلاميذ في هذا السلك ، والتي لا تتجاوز في كل فصل عدد أصابع الستاتي ، فإن النيابة الإقليمية رضخت لمطالب الآباء ، فأحدثت فصلين ، أحدهما للشعبة الأدبية ، والآخر للشعبة العلمية... وكان عليها ، بالمقابل أن توفر عددا أقرب ، أو ربما أكثر ، من الأساتيذ للتدريس في هذين الفصلين ، نظرا للمواد الكثيرة التي تُدرَّس في هذا السلك... اخترت يوم الأربعاء للسفر ، لكونه يوم سوق أسبوعي في إغرم ، ولاعتقادي أيضا ـ أنا الذي لا أملك سيارة خاصة ـ أن وسائل النقل ستكون ، يومذاك ، متوفرة بما فيه الكفاية... قبل النوم جمعت كل عدتي التربوية اللازمة ، من مذكرات ، وكتب ، ووسائط بيداغوجية ، وأوراق وأقلام ، وحزمت حقيبتي ، وهيأت ملابس تليق بالمهمة ، ثم لذت بسريري ، مطمئنا إلى أن كل أسباب العمل قد توفرت... 
      في بداية الهزيع الأخير من الليل توجهت نحو المحطة الطرقية ، ألتمس طريقي وسط دروب ضيقة ومظلمة ،  في هذا اليوم الخريفي البارد والطويل ليلُه ، وأتوقع في كل لحظة أن ينبجس من أي مكان قاطع طريق ، أو سكران يبحث عن رفقة تؤنسه حتى الصباح... ولم أتنفس الصعداء إلا بعد أن بدت تلوح لي أضواء خافتة ، تنبعث من مصابيح متهالكة تحيط بالساحة العمومية التي كانت ، في الوقت نفسه ، محطة طرقية... هُرِع نحوي وسيط لفّ جسده الهزيل ، المائل إلى الطول في جلابية وزّانية من الصوف المزركش ، ليس لها أكمام ، وسألني بصوته المبحوح عن الوجهة التي أقصدها ... قلت بصوت مهموس ، كأنني أدخر طاقته لساعات العمل القادمة : "إغرم..." قال معاتبا : "لقد تأخرتَ ... الحافلة الوحيدة القادمة من الدار البيضاء في اتجاه إغرم غادرت قبل قليل... وسيارات الأجرة كلها ذهبت أيضا..." ولّاني ظهره يائسا من أمري ، وانصرف... أحسست كأنه صب عليّ سطل ماء بارد في هذا الصباح الأشد برودة... هل أعود أدراجي ، وأكمل نومي في سرير سأجده بالتأكيد محتفظا ببقية دفء ، أم  أنتظر هنا كالتلميذ المتهاون الذي لا يدري نوع العقوبة التي ستنزل به... أحكمت إغلاق معطفي ورحت أبحث عن الوسيط الذي يتنقل كالنحلة النشيطة بين سيارات الأجرة والمسافرين... قلت له في ما يشبه الاستعطاف : "أليس هناك أمل في الذهاب إلى إغرم ... ؟" قال دون أن يلتفت إليّ : "لا أمل يا أستاذ... سيارات الأجرة التي ذهبت لن تعود إلا بعد العصر ، ومتى عادت فإنها ستبيت هنا..." كيف عرف أنني أستاذ؟ أمن حقيبتي؟ أم من اضطراري إلى البحث عن وسيلة نقل تحملني إلى مقر عملي ، وإلحاحي على ذلك؟ أم من ملامحي التي فيها قواسم مشتركة مع كل أساتيذ البلد؟ أحسست وكأن في لهجته مسحة من التحقير ... لم ألُمْه ، ولكنني أنحيت باللائمة على الوزارة التي لم توفر لهيئة المراقبة التربوية وسيلة نقل ، إسوة بأطر الوزارات الأخرى ، الذين ينتقلون لأداء مهماتهم في سيارات تحفظ مروءتهم ، وتيسّر لهم العمل في ظروف جيدة ومريحة ، وتساعدهم على مردودية أفضل... كان هذا مطلبا مُلِحّا من مطالبنا ، نحن الذين نشتغل في نيابة أو أكثر من نيابة واحدة ، شاسعة الأطراف ، تنعدم فيها وسائل النقل ، أو يصعب التنقل بين مدنها وقراها... كنا نشعر بكثير من الغُبن ، حين تجمعنا بعض المصادفات ، مع أطر الوزارات الأخرى في بعض المناطق ، فنغبطهم على اهتمام وزاراتهم بهم ، وحرصها على تسهيل ظروف عملهم... كان بعضهم أحيانا ، يشفق علينا ، فيعرض علينا توصيلنا معهم في سيارتهم ، لكننا كنا نرفض تعفُّفًا ، وحفظا لماء الوجه... كنا نعلم أنهم يتقاضون تعويضاتهم عن التنقل قبل القيام بعملهم ، أو في أسوأ الحالات بعد عودتهم مباشرة إلى مقرات عملهم... وكانوا يستغربون حين يعلمون أننا لا نتقاضى تعويضات تنقلاتنا إلا في نهاية السنة المالية ، أي في شهر دجنبر ، وبعد أن يكون مراقب المصالح المالية في النيابة قد أشَّر على المطبوعات الخاصة بذلك ، بعد مراقبة دقيقة لتواريخ الزيارات ، وعدد النسب المخصصة في كل زيارة ، وبعد أن يكون مراقب وزارة المالية قد أشَّر عليها بدوره بعد فحص وتمحيص ، ومراجعة وتدقيق... وكثيرا ما يتم إرجاع تلك المطبوعات إلينا أكثر من مرة ؛ لإعادة تصحيح تاريخ ، أو زيادة نسبة أو نقصها من مجموع النسب المحددة لكل مراقب تربوي... وقد تستغرق عملية التصحيح ، ثم تصحيح التصحيح ، ثم تعديل التصحيح ، ثم مراقبة التصحيح المعدّل أكثر من شهر ، لنتوصل في النهاية بالمبلغ الزهيد ، الذي لم يكن يتجاوز ، في كثير من الحالات ، ألف درهم ، أو في أحسن الأحوال ألفا وخمسمائة درهم ، عن السنة برمتها... ولو قمتَ بعملية حسابية ، لوجدتَ نفسك أنفقتَ على تنقلاتك أكثر من ذلك المبلغ بكثير...
      مرَّ الوسيط بجانبي ، بعد أن احتسى صحنا من البصارة لدى صاحب العربة الرابض على مقربة من سيارات الأجرة... كان يفتخ سيجارة ستحلق به في الأجواء العليا... تجشّأ أكثر من مرة ، مثل أسد يزأر ليرسم حدود مملكته... تجاهلني فترة ، ثم سرعان ما توقف ، عمدًا ، غير بعيد عني... كدت أسأله مرة أخرى عندما رماني بنظرة فاحصة لم أفهم دلالتها إلا بعد أن قال : "إذا كنت تصر على الذهاب ، فثمة بائع خبز سينطلق بعد قليل..." كانت نظرته تعني أن أنسى شكلي وهيئتي ، وأندس بين صناديق الخبز في سيارة ، الله وحده يعلم حالها... أحسست بغُبن أكبر ، وبإهانة شديدة تلحق هيئة المراقبة التربوية قاطبة حين يُرى واحد من أفرادها ، يقبع داخل سيارة لبيع الخبز تجوب أسواق القرى والمناطق النائية... تمنيت لو أستطيع إدراك نوع الإحساس الذي سينتاب نائب الوزارة ، أو الوزير نفسه حين يشاهدان هذا الموقف المُذِلّ لأحد موظفيهما... لم يمهلني الوسيط حتى أتجرّع الإهانة التي ألقمني إياها... استحضرت الأستاذ الجديد ، وحاجته إلى الوثائق المساعدة ، وإلى من يرشده إلى طريقة العمل ، وكيفية التعامل مع مختلف الوسائط البيداغوجية ، سيما وأنه وحيد في الثانوية ، وليس بالقرب منه أي من الأساتيذ القدامى ، الذي يمكن أن يمد إليه يد المساعدة... وفكرت أيضا أن السفر إلى إغرم في يوم غير يوم الأربعاء أمر غير مضمون ، وغير مضبوط بوقت محدد... ناديت الوسيط الذي ابتعد عني مسافة ، ودون أن يتكلم ، أشار برأسه أن اتبعني... كان يمَرِّر اللفافة يمينا وشمالا على طرف لسانه لتلتصق جيدا... وضعها بعناية في الزاوية اليمنى بين شفتيه ، وتوقف قليلا ، بعد أن كان يهرول أمامي في اتجاه سيارة بائع الخبز... وبحركة رشيقة أشعل عود ثقاب أضاء جانبا من وجهه الشاحب ، ومضى يستنشق الدخان العجيب من سيجارته المحبوكة بدراية فائقة... حين نفثه في الهواء ، حمل الريح بعضا منه ، فاكتسح خياشيمي ، وتسرَّب إلى معدتي الفارغة ،فأحسست بما يشبه الدوار في رأسي... بصعوبة لمحت شبحه يقتحم الظلام الدامس في اتجاه سيارة من الحجم الكبير... كان فتى أعرج ينقل إليها من الفرن المجاور صناديق مُلِئت خبزا ، بينما صاحب السيارة بداخلها ، يرتب الصناديق بعناية... قال له الوسيط : "دّا سْعيد ، خذ معك هذا الأستاذ إلى إغرم... إنهم يستمرئون دفء الفراش حين ينامون بين أفخاذ زوجاتهم ، حتى إذا أشرقت الشمس جاؤوا إلى المحطة متأخرين ، وأزعجونا باستعطافاتهم وتوسلاتهم... خذه معك ، فإنه سيُكرمك جيدا..." قالها باللغة الأمازيغية ، ظنا منه أنني لا أفهم ذلك اللسان ، ووقف ينقل بصره بيني وبين دّا سعيد ... نفحته بعض الدراهم ، ثم سعل أكثر من مرة قبل أن يُخرج دّا سعيد يده من جيبه ، ويمدها إليه... تلقف ما فيها مثل نشّال محترف ، واختفى في الظلام... سمعت دّا سعيد يغمغم بضع كلمات غير مفهومة ، ويعود إلى تصفيف الصناديق التي راكمها الفتى الأعرج بجانب السيارة... لم يلتفت إليّ ، ولم يكلمني... كنت بالنسبة إليه مجرد بضاعة عليه إفراغها في إغرم ... طال بي الوقت وأنا أنتظر أن يُفرِغ الفتى الأعرج كل ما في جوف الفرن من خبز... بدأ الظلام ينسحب شيئا فشيئا ، وعادت الكائنات البشرية التي كانت تتراءى مجرد أشباح ، تأخذ شكلها الطبيعي... رأيت ملامح الفتى الأعرج حين مر بجانبي بعد أن وضع آخر صندوق قرب الباب الخلفي للسيارة... كان  وجهه طافحا بحَبِّ الشباب... وكان شاربه يبدو مثل قوس معقوف رُسِم بعناية... في أسفل ذقنه نبتت شعيرات نافرة... وضع على رأسه الصغير طاقية سوداء ، تغطي كل شعره وتنزل إلى ما تحت أذنيه... يرتدي سروالا قديما من الجينز ، لفّ أسفله من جهة الرجل العرجاء... بدا لي أكبر سنّا مما توقعت... ابتلعه باب الفرن ، وظل هناك... لم أره بعد ذلك... بينما سحب دّا سعيد من تحت مقعده في السيارة بطّانية رمادية ، سجّى بها صناديق الخبز ، وأومأ إلي برأسه لأركب... فتحت الباب الأيمن للسيارة بمشقة ... رأيت دّا سعيد من خلال زجاج النافذة المضبّب بفعل الخبز الساخن ، يتمطّى من مقعده خلف المقود ليدفع الباب بقوة ، ويساعدني على فتحه... أدركت ، وأنا أمعن النظر في أجهزة السيارة الداخلية ، أنها مهترئة تماما... المقود تلاشى معظم المطاط المحيط به ، فأصبح عبارة عن سلك دائري... مبدِّل السرعة نصفه ذهب ، ولم يبق منه إلا قطعة حديد في حجم قبضة اليد... بعض الأسلاك تتدلّى من ثقوب تطل على المحرك... المقعد الذي جلست عليه لفح مؤخرتي ببرودة شديدة... قطعة الجلد المثقوبة التي تغلفه وُضِعت مباشرة على صفيحة القصدير ، أو ربما تلاشى الإسفنج الذي فُرِش عليها... قلت في نفسي : هل تستطيع هذه السيارة ، أو على الأصح ما تبقى منها ، أن تتسلق كل تلك الجبال ، وتصل إلى إغرم سالمة؟ انتابني بعض الخوف... وحدثتني نفسي بتأجيل الزيارة ، وكدت أرضى من الغنيمة بالإياب ، لولا أنني سمعت هدير المحرك ، بعد أن أداره دّا سعيد عدة مرات قبل أن يشتغل... كان دّا سعيد رجلا كهلا ، تجاوز الخمسين من عمره ، ذقنه حليق ، وله شارب كث يكاد يغطي فمه... حاجباه مقوسان ، وقد تدلى شعرهما على عينيه... شعر رأسه منفوش كأنه لم يمشط منذ سنوات... تجاعيد كثيرة تتمدد على جبهته وخدّيه... أنامل كفه دقيقة وطويلة ، وفي أطرافها أظافر غير نظيفة... ربما بسبب الإصلاحات الكثيرة التي يُدخِلها على سيارته... كان قليل الكلام... لم أتبين معالم صوته حتى الآن... كل ما سمعت منه غمغمات صدرت عنه عقب انصراف الوسيط الذي دلني عليه... تحركت السيارة ببطء شديد ، أيقنت معه أننا لن نبرح المدينة قبل طلوع الشمس... بدأت رائحة الخبز تتسرب إلى أنفي ، وتصل إلى معدتي ، فتستنفر كل عضلاتها ، وتوقظ بداخلها جيوش الجوع من سباتها... كنت قد منّيت نفسي بفَطور شهي ، فور وصولي إلى إغرم ، وقبل التحاقي بالثانوية... لكنني الآن أرجو فقط الوصول إلى الثانوية ، وألغيت من حساباتي فكرة الفطور الشهي... كانت الساعة قد قاربت الثامنة ، حين خلفنا وراءنا أسوار المدينة ، وسارت السيارة تشق طريقها نحو المرتفعات... على الجنبات كان بعض الفلاحين المجتهدين قد بدؤوا يشقون بطن الأرض بمحاريثهم الخشبية ، في انتظار نزول أولى قطرات الغيث ، بينما تتراءى قطعان الغنم يدفعها الرعاة في اتجاه المراعي الممتدة في سفح الجبل... ما زال دّا سعيد غارقا في صمته الطويل... يصرُّ على أن يزيد من عذابي بهذا الصمت الذي لم أفهم له معنى ، ولم أدرك له سببا... توقعت أن يسألني هل أرغب في بعض الخبز ، أكسر به جوعي الذي بدأ ينمو شيئا فشيئا كلما توغلت السيارة في الطريق الجبلية... لكنه مواظب على تجاهلي ، كما لو كنت مجرد كيس موضوع على المقعد... آه ، كم تمنيت قليلا من زيت الزيتون ، أغمس فيه هذا الخبز الساخن ، ذا الرائحة الطيبة ، مع كأس شاي دافئ ، ينعش الروح ! أصبح الفَطور بهذه العناصر أعزّ ما يطلب... ودّا سعيد متمادٍ في صمته ، لا يشغله إلا أزيز العجلات تصطك على إسفلت الطريق ، وصرير المحرك ، يدفع العربة لتسلق الجبال الرابضة في الأفق الممتد أمامنا...
      بدت لي السيارة وكأنها تعود إلى الخلف ، عندما استقبلَتْها أول عقبة على الطريق... كاد المحرك يختنق ، والكف المعروقة لدّا سعيد تراود الحديدة المتبقية من مبدِّل السرعة... فكرت أنني لو ترجّلت الآن من السيارة لسبقتها ، من فرط البطء الذي تسير به... كنت بين الفينة والأخرى أختلس النظر إلى دّا سعيد... كان كأنه قُدَّ من صخر... لا كلام ، ولا ابتسام... انهماك كلّي في السياقة حدّ الخشوع... لولا الحياء لمددت يدي إلى الصناديق المصفوفة خلفي في مؤخرة السيارة ، واستخرجت منها خبزة ، أو خبزتين ، والتهمتهما حافيتين... أصبح هذا الخبز الحافي كل المنى... تبخّرت من رأسي كل النظريات التربوية ، وأصبحت الوثائق والوسائط البيداغوجية مجرد لغو وعبث لا طائل من ورائهما... لا أدري لِمَ تذكرت في تلك اللحظة الخبز الحافي لمحمد شكري... الخبز مطلب كل إنسان ، وغاية كل عامل... هو المحرك الأساسي للعالم... أن يكون الخبز أقرب إليك من حبل الوريد ، ولا تستطيع أن تتناوله ، فذلك أقسى عقاب يمكن أن ينزله بك الخالق... أصبح بالنسبة إليّ كالسراب ، كلما اقتربت منه ازداد بعدا... في نهاية المرتفع الأول انعطفت السيارة يمينا ، ودخلت في طريق غير معبد... نظرت إلى دّا سعيد كأني أستفسره عن سبب انعطافه عن الطريق الرئيس... لكنه صامت كتمثال من نحاس... بدأت تلوح غير بعيد بعض البيوت المبنية من الطين... وقفت السيارة عند أحدها ، ورأيت السائق ينزل ويطرق بشدة نافذة مغلقة... لم ينتظر جوابا.. بل فتح الباب الخلفي للسيارة ، وأخرج منه صندوقين وضعهما تحت النافذة ، وعاد إلى مكانه خلف المقود ، وسجل في مذكرة أخرجها من جيبه أرقاما ، ثم عاد بسيارته نحو الطريق الرئيس...
      تكررت هذه العملية كلما وصلنا إلى قرية من القرى المبثوثة بين الجبال ، أو على جنبات الطريق... وفي كل مرة تمر طقوس التسليم في صمت مطبق ، وأنا كالمنكوب من سوء حظي الذي قادني إلى هذه اللعبة السخيفة ، التي ستُفوِّت عليّ فرصة زيارة الأستاذ الجديد ، ومدِّه بالوثائق الضرورية للعمل ، ومساعدته على حل المشكلات التي قد تواجهه... وفي غمرة ذلك نسيت جوعي الشديد ، ورغبتي الجامحة في التهام هذا الخبز الساخن الذي يستفزني برائحته العجيبة الطيبة... نسيت كل ذلك ، وأصبحت أنظر إلى دّا سعيد على أنه نصّاب ، تحَصَّن خلف صمته ، واحتال عليّ ، ليقوم هو بعمله كاملا غير منقوص ، ويحرمني أنا من أداء واجبي... لعنت الشيطان المتوثّب في داخلي ، واعترفت في قرارة نفسي أنّ التعاقد بيننا لا يُلزِمه بإيصالي إلى إغرم في وقت معين ، وبأنني لم أشترط عليه أي شرط ، بل اكتفيت بما قاله له الوسيط... أن يأخذني معه إلى إغرم ، وكفى... وها قد فعل بعد أن جُبْنا كل القرى والمداشر ، وأطعمنا أهلها بكفايتهم من الخبز ، في حين بقي بطني فارغا إلا من بقايا الدخان الذي تسرب إليه في غبش الظلام ، بعدما نفثه الوسيط من سيجارته العجيبة...
      حين ألقت السيارة عصا التسيار وسط سوق إغرم ، تحلق حولها عشاق الخبز القادم من المدينة... كانت الساعة قد تجاوزت الحادية عشرة بكثير... والأستاذ أنهى حصته في الحادية عشرة... كل ما أستطيعه الآن ، بعد أن تعذر الحضور معه في الدرس ، استدعاؤه بعد الظهر في جلسة خاصة للتعارف ، وتزويده بما يحتاجه من وثائق ، وتعريفه بالمنهاج ، وبطرائق التدريس الخاصة بكل مكون من مكونات مادة التخصص ، على أمل زيارة أخرى تتيح الحضور معه في درس حي ، للوقوف عمليا على لحظات الإنجاز ، وتقدير مؤهلاته المعرفية والتربوية ، ومساعدته على تجاوز الصعوبات التي قد تعوق السير العادي لعمله...
      أعطيت دّا سعيد أجره كاملا ، ولم أسمع منه كلمة واحدة ، حتى كدت أجزِم أنه أبكم... دخلت مقهى شعبيا في السوق ، وطلبت لنفسي فَطورا... فَطورا يليق ببائع خبز أدّى مهمته على الوجه الأكمل... وكان من أطيب وألذ ما تناولت في حياتي من طعام.

تعليقات