حلِّق يا غراب البين.. إنني سعيدة /مها سالم الجويني

كنت أنفث دخان أرجيلتي التفاح وأتصفح رواية نوميديا من جهازي الآيباد، بينما مرَّ من أمامي أحد الأصدقاء تتأبط ذراعه سمراء حبشية رشيقة القوام، ابتسمت إليه، بادرني التحية، بعد أن لاحظ أنني منهمكة في القراءة، قال مازحاً بلهجته المصرية:"وبعدين بس قولي لي هتعيشي حياتك إمتى؟".ضحكت أمام سؤاله، وتمنيت له سهرة طيبةمع صديقته، توجهت نحو أرجيلتي، أمسك بها تارة، وأتابع صفحات نوميديا تارة أخرى، لم يكن سؤاله مزعجاً، فلطالما تعرضت لمثل هذه التعليقات التي تصل أحياناً إلى حد السخرية من عملي في إثيوبيا، ومن شعري الأشعث، ومن طريقة لباسي، ومن أسلوب حياتي، ناهيك عما أسمعه من تعليقات جارحة حول تغريداتي في مواقع التواصل الاجتماعي.لقد توقفت منذ فترة عن مواجهة العقول الشرقية، ولم أعد أرد على أسئلة أمي وخالتي وجارتي وزميلاتي: هل تواعدين أحدهم؟ هل هناك فستان أبيض في الطريق؟وتوقفت عن عرض وجهة نظري في الحب وفي المصاعب التي تواجهني في جنوب الصحراء الإفريقية، وأقلعت أيضاً عن تقديم التبريرات وشروح لقريناتي، وكأنني متهمة أمام المحكمة الجنائية التونسية أحاول استمالة فؤاد القاضي علَّه يغفر لي جُرمي المشهود.وأي جرم اقترفته عزباء مثلي؟ اختارت الاستقرار في القرن الإفريقي تاركة وراء ظهرها موضوع الزواج والارتباط، فمسألة العزوبية أو "خلي القلب" على رأي عندليب الشرق، غدت خياراً أتماهى معه وأصبحت أعتز بذلك ولا أجد حرجاً حين أدخل المقهى الإيطالي وحيدة لأشرب فنجان قهوة أو لأقرأ كتاباً وأغادر.لقد استأنست المشي بين زقاق أديس أبابا غير آبهة بالوضع الأمني المضطرب الذي تمر به إثيوبيا حالياً، أمازح حراس المبنى، أقف عند بائعي البرتقال، أتحدث معهم بالأمهرية التي أضيف عليها لكنتي التونسيةلأثير ضحكهم، أدخل شقتي أجلس على الأريكة، أشاهد آخر الأخبار، ثم أضع روتانا كلاسيك لأنام على صوت أم كلثوم.بين المطبخ والكتب والعمل وأخبار حقوق الإنسان في الشرق تمر أيامي خفيفة كوقع رذاذ المطر، أيام سُرَّ جسدي فيها بحمام بخاري أو بتدليك إفريقي يُنسيني أوجاع العمل، وسُعد بها شعري الغجري بعلاج طبيعي جعله يغير من مزاجه وينسدل على وجهي كقطعة حرير آسيوية، صباحات استسلمت روحي فيها لألحان فيروز التي ترافقني حين أعد قهوتي بكل تأنٍّ.وسط عالمي الصغير الذي أنتقل به عرض هذا الكون من الصين نحو العراق إلى الغابون، هناك حيث أحافظ على عاداتي وعلى طقوس الجنون التي ورثتها عن زقاق المدينة العتيقة بتونس، هناك حيث أخبرهم بأنني أنحدر من شامخة البحر الأبيض المتوسط، والأولى صوب القارة السمراء، والجليلة رغم خريف العرب.إن تبادل الحكايات والتجارب والارتماء في حضن العالم الشاسع يُغنيني عن التفكير في زواج تقليدي يمنحني لقب حرم فلان أو الزوجة المصون التي غدت صاحبة بيت ومسؤولية ومحل تقدير واحترام من مجتمعنا، فحين تصاحبين جواز سفرك ومدونتك تجدين سعادة في أشياء أخرى، تجدين الغبطة في أعمال أخرى تختلف عن وصايا أُمَّهاتنها في "كيف تتزوجين رجلاً في أقرب الآجال؟"، و"كيف تحمين بيتك من المشكلات؟".إن فعل الحرية يجعلني أفتح ذراعي للرياح، للجبال، لتلك الغربان السوداء التي تحلّق فوق عمارتي وتطل على غرفتي، كنت أشاهدها وأبتسم قائلة: حلّق يا غراب البين.. إنني سعيدة.

تعليقات