حِكمـة حَـانُوتيّـة بطُـعم السُّـكر ..

لأنها كذلك الإشاعة دائما ما تنتشر كالنار في الهشيم ، سواء أُريدَ بها باطل أو لتحقيق مصلحة ، فقد إعتمدها الدّهاة من أدنى مستوياتها حين حدّدوا للحمار علما يُنال بالتكرار ، ومن تمّة نبتَتْ بين ظهرانينا طفيليات سرحت بها الأوهام في براري التضخم ، حتى فتحت من الأجنحة ما لا يسعه عقل سليم ، وحلقت في جوف الجماجم غربانا ، لا يظهر من آثارها إلا أصوات الشؤم القبيحة . لمثل هؤلاء أقول وأعاود القول أن مول الحانوت قد تخطّى عتبة الوصاية بشهادة ما نلمسه من حراك ، وإن كان بنسب متناثرة هنا وهناك ، لا أَكَلُّ ولن أمل من المناداة بإستجماعها ، لأننا مُتّحدّين لا محالة نبلغ بهذا الكائن التجاري منازل تُلائم كل التطلعات ، على خلاف المتاجرة بهمومه عرضا وطولا ، لا غرض ولا طائل من ورائها عدا التمركز في مقدمات ، تؤخر أكثر مما ترتقي بالمصلحة العامة .
الطبيعي أن مياها كثيرة تسير تحت الجسور إلى أن غمر الطين بلُزوجته أَسْطُح المآوي ، فتشنَّجت في جداويل عدّة سيول حيوية ، ماتت بتجميدها قلوب تتلهف المحبة ، قَدَرُها أن تُسعف التقدير إنعاشا للروابط ، يجري في عروقها تقدير مُعقّم . إنّ في أحشاء الوجود لمُذغة إذا صلُحت أسدلت العافية على الكون ستائرَها ، ولم تحجب البغضاء دفء الرحمة ، ولا كان بين الرحمن ومَن في الأرض حاجز ، ولطالما حدثتني أعماق نفسي أن أشارككم واقعة عايشتُها ، وما إستفقت لحد الساعة من آثار دوختها ، لعلنا نكتسب بعدها أّذبا نفيسا ، ذي عيار ربما تمّ وإنقرض ، قد توازي في المخيّل الشعبي دجاجة المُتصدِّق ، تُطْلِقُ سراحها على أنّكَ مُلاقيها من بعد حين ، وقد نابها من السّمنة قسط ، يتباين وزنه أجرا بقَدْر سلامة النية .
وتتلخص وقائع هاته النادرة الفريدة من نوعها في ما يشبه نصب كمين للإيقاع بزبون في حالة تلبُّس ، حين كان الوالد رحمة الله عليه يصطحبني إلى متجره بغية الإستعانة بمؤهلاتي الحسابية في مراجعة كراريس الفواتير ، وكلما عثرت على خلل ضمنها كان يكافئني بْـللّي جابْ الله . حينها كنت ألاحظ من زائرنا الدائم التواجد كل صباح وقت الفطور حركات مريبة يقوم بها كلما همّ بالمغادرة ، فلم يكن يبارح مكانه دون أن يمدّ بيَديْه من خلال جَيْبَيْ جلبابه إلى بطن كيس السكر الذي يقعد فوقه ، ثم ينتصب ليخرج ولكأنه يضم إلى سُرّته شيئا ما .
كانت أيام العطل الدراسية التي أزاوج فيها بين مهمتَي محاسب وحْـنْـشَة كفيلة بأن أتحقق من أن الرجل كان يسحب من الكيس كل صباح قالب ديال السكر ، ما جعلني أنتشي في غمرة الشباب بمثل هكذا إنجاز ذي قيمة مضافة ، هرعت به إلى الوالد طمعا في ترقية أظفر من وراءها بشرف ثانوي ، إلا أن الصدمة كانت قوية . فقد باغثني الوالد بردٍّ لم يَرِدْ في حسبان ، أي نعم فقد كان أبي على إطلاع مسبق بكل ما يجري ويدور في مجال نفوذه ، سيما وأن الرجل وعلى مدى سنوات طويلة كزبون وفيّ ، لم يسبق له أن إقتنى منا ضمن تموينه الشهري مادة السكر . لأقف مذهولا أمام تحليل والدي وهو يستبشر خيرا بأفضال ما وصفه على إعتبار أنه كمشروع إنشاء منصة راجمة صواريخ ، المراد منها التّصدي عقائديا لكل سوء من شأنه أن يتهدد سلامة الأسرة والتجارة ، وقد كان من شروط الوالد لإستمرار رعايةٍ من هذا القبيل ، أنْ أخدَ عليّ وعدا بالتكثم عن هذا الخير الوفير ، حتى يُفرق الموت بين طرفي المعاهدة ، مؤكدا بتشدد ودون رجعة مسامحته الآنية والبَعْدية للرجل ، أكان ذلك في الدنيا أم في الآخرة ، ما طَغَت حلاوةُ السكر على مرارة عيش المتعففين .
أسوة بأمثال الوالد من حكماء التجار كان لابدّ لي من مشاركتكم هاته العبرة ، حتى نحْتديَ بخُلقهم ، لأنني وقفت على آثارها بعد عقود من الأمد ، عندما عاينت بأم مقلتاي بشائرها ، عبارة عن دعاء لوالدي بأوسع الرحمات على أبواب الحرم النبوي الشريف ، إذ بي أصادف على مرمى الجباه من منبر الرسول (ص) نسل الرجل ، فكان من كرم الله عليّ أن تذوقت بطيبة نصيبا من طعم السكر ، إذ ذاك لم أقوى على ثني العَبرات وبنات المرحوم يشنفن مسامعي بمكارم أخلاق الوالد .
على عكس ما تربّينا عليه يجيء اليوم من يسرق حقوقنا وإجتهادنا على أننا تعودنا على غض الطرف ، مع أنّ الإيثار فضيلة يشقّ على مَنْ إمتلأ إناءً بالأنانية أن يستوعب إنسياب مغازيها ، وعندما نتمكن من الأدوات سنقارع الحجة بالأخرى ، لإنّ نبهاءً يعتقدون أن مول الحانوت عندما يَترفّعُ عن المتاجرة بحقوق الناس ، إنما هو في مصاف البلداء ، وهم بذلك يستحقون منا الشفقة ، لا لشيء أكثر من أننا نشأنا في بيئة ، من مقاييسها أنّ أمّنا عائشة كانت تضع الطِّيبَ على قطع النقود قبل التّصدّقِ بها …
الطيب آيت أباه من تمارة

تعليقات