ما دّير حانوت ما يطرَى باس

ـ مفتش الشغل . نهاية مأساوية لعلاقة تجارية عمرت لأزيد من عقدين ، وتتلخص هاته الواقعة التي توسطتُ لأجل حلّها في نشوب نزاع طارئ بين طرفين ، جمعَت بينهما الظروف في بداية الأمر كتاجر ومساعد ـ خدام ـ ، نسجت المثابرة والإخلاص خيوطا سميكة فيما بينهما ، وصلت إلى حد إنشاء مقاولة صغيرة عبارة عن متجر للمواد الغدائية ، ساهم فيه التاجر بالتجهيز ورأس المال وكل المستلزمات ، مقابل تسيير وإدارة شؤونه من قبل المساعد على أساس الإنتفاع المشترك ، كما جرت على ذلكم العادة ، وفق العرف المعمول به في مثل هكذا معاملات تعاضدية .
إنطلق المشروع وأزهرت معه الآمال وتفتحت ، كورود تبهج الأنفس ، ليثمر ربيع الودّ بمصاهرة إشتبكت على إثرها العروق ، وإمتزجت الدماء وأشلاء الأكباد في صبايا وصبيان شق وميض ضياءهم سبيل العمر . إلا أنها الشياطين وأبالسة الشر لا تغفو ولا تنام ، بل تظل على العهد والسعي متربصة بالأنام ، يؤرق بالها كل توافق يسير بخطى وئيدة صوب الوئام ، كما كان عليه التاجر وصهره ، إلى اللحظة التي توصل فيها الأول من مفتش الشغل بإستدعاء موضوع شكاية ، تقدم بها مسير الحانوت على إعتبار أنه أجير ، و تتضمن المطالب التالية :
ــ أداء التعويض عن العطل السنوية المؤدى عنها .
ــ التصريح بالأجور لدى الص و ض ج .
ــ تعويضات الفصل .
ــ التعويض عن مهلة الإخطار .
ــ التعويض عن الضرر .
ــ تسليم شهادة العمل .
هرمنا من أجل إلتقاط صورة مع هاته المطالب ، ولا قبسا من نور يلوح في الأفق . بحَّت أصواتنا وتصدّعت حناجرنا من العويل ولا أحدا يصغي . موعدنا إذن عند أقرب مفتش شغل ، ولكن بإسم من سيضع مول الحانوت شكايته ؟
الحاصول لا أحدا لقاها كيفما بغاها ، ما عدا نذلا إذا لم يستحي فعل ما يشاء .
ــ حكم من قلب الحانوت .
علاقة بالجولة التواصلية التي أجوب على إثرها أزقة ودروب عمالة الصخيرات تمارة ، حصل أن وقفت على شاب من سجناء مواد الغدايد وهو في حالة إنغماس قصوى ، يُدون يوميات الكريدي بين صفحات الكتاب المنقد ، وعلى الضفة الأخرى من الكونطوار تسمرت شابة تنتظر حيزها من التغطية التموينية ، كما دأب على ذلك كثير من أيتام هذا الوطن ، في خرق عفوي للشعار الصوري : ـ ممنوع الطلق والرزق على الله .
لم أشأ أن أزعج الشاب حتى أفرغَ مخزون ذاكرته من جامّ الديون عبر قلم مربوط إلى خيط لاستيك ، فرمقني بنظرة خاطفة ثم إنعرج بإهتمامه صوب الشابة ، لتفاجئنا الشابة وهي تطلب منه بلطف أن يلبي حاجتي قبلها ، فما كان مني إلا أن شكرتها بلباقة مدعيا كوني لست على عجل ، لكنها أسرّت وألحّت بتخلق جعلني أعيد إلقاء التحية . متوجها بالكلام إلى مول الحانوت ناولته منشورا موجزا عبارة عن دعوة إلى التواصل ، ليقاطعني على الحين بعبارة : ـ الله يسهل .
إبتسمت ورجعت خطوة إلى الخلف ، وفي قراءة سريعة لملامحه أدركت أنني أعرفه ، فقد كان يتردد عليّ من حين إلى آخر أيام الهري . على الفور بادرته بالسؤال إن كان يتذكرني ، فلم يفلح بادئ الأمر كوني كنت مغلفا في قميص خليجي وقبعة وأضع نظارات طبية ، ولكن ما أن أرشدته ببعض المعلومات حتى إرتسم الخجل على محياه ، فراح يبرر ردة فعله التلقائية بما يتعرض له الناس من إحتيال محبك ، توثقه وتؤرخه أوراق الإستجداء التي ينشط موزعوها في الحافلات والمقاهي .
البديع في تلكم الواقعة أنها عادت بي سنينا طويلة إلى زمن الحكماء ، ففي بداياتي التجارية كان الوالد رحمة الله عليه عقب كل صلاة عصر ، يكتفي بالإضطجاع متكئا على خنشة ديال السكر مليئة بالتبن قريبا من باب الهري ، فاسحا أمامي كامل المسؤولية لتولي إدارة المحل ما تبقى من النهار ، وذات يوم قبل إنتشار السوبيرات كالجراد المبثوث ، إقتنى مني عابر سبيل بعض الأغراض ، فإلتفت وهو خارج جهة الوالد ، ثم مدّه بقطع نقدية كصدقة ، الشيء الذي أثار حفيظتي آنذاك ، فلم أمتلك معه أعصابي لأناديه بإنفعال : ـ وا بنادم هاذاك راه الواليد ماشي طلاب .
الشاهد وللأمانة ، فقد أغضب تصرفي ذاك والدي كثيرا ، حتى أنه نهرني بشدة غير معهودة ، وطلب في نفس الآن بطريقة سلسة من الرجل أن ينصرف إلى حال سبيله ، مطمئنا إياه على حسن نيته ونبل مشاعره ، وما هي إلا لمحة من البصر حتى إنتصب بين ظهرانينا معوز حقيقي ، ناوله الوالد أمانة الرجل وطلب منه الدعاء لصاحبها ، مشيرا إليّ بالتّحلي بالرزانة والتريث في مثل هكذا مواقف ، تجنبا لإفساد ما قد ينوبك من أجر معنوي دون الحاجة لبذل مجهود مادي .
تبادلت بإقتضاب أطراف الحديث مع الشاب مول الحانوت ، ثم أتممت المسير ، وأنا أحدث نفسي عن مآل أهل الخير مع كل هذا الإحباط المتفشي بفعل موبقات على غرار : ـ مادّير خير ما يطرَى باس ؟
مباشرة معكم .
أعرف أطفالا كُثر دفنتهم ظروف العيش القاسية في الدكاكين ، حتي تقوت عضلات إقتصادنا ، فجاء من وُلدوا وفي أفواههم ملاعق من دهب ، ليفتوا في أمر الطفولة المغتصبة .
أين كنتم عندما كان هؤلاء الأطفال يؤدون ضريبة نجاحكم ؟
كبر هؤلاء الأطفال قبل الأوان ، واليوم أصبح لهم بدورهم أطفال مهددون بنفس الخدلان .
بالأمس كنا نبني هذا الحاضر ولا أحد إعترف بنا ، واليوم تنهش الحيرة أكبادنا على مستقبل أبناءنا .
المقصود ب ( أنتم ) كل من لا يشعرون بالذنب أمام هول هاته الفاجعة ، لأن أطفالا كُثر يشوه عنف اللامبالاة مستقبلهم في غفلة منهم منا ومنكم
الطيب آيت أباه

تعليقات